الاثنين، 12 مايو 2025

موسى أبوجبارة

مقدمة


أعود إلى قلمي كالعادة في الأزمات والضغوط، ولا أعلم كيف أفرغ ما بنفسي إلا عن طريق هذه الكتابة. أكتب اليوم بهذا التاريخ بعد أن حذفت مسودة كاملة كتبتها قديمًا عن هذا الشخص ولم أنشرها، وأضيفها إلى قائمة الشخصيات الأكبر تأثيرًا على نفسي، وشخصيات عظيمة كنتُ قبلها شيئًا وأصبحتُ بعدها شخصًا وفكرًا آخر.
أكتب في هذا التاريخ 12 مايو 2025، وهو أعدّه من الشخصيات التي ما زالت حيّة، وهو الشخص العظيم بألقابه الكثيرة المتعددة، ولكل اسم منها هيبته وحكايته حسب من ناداه.
هو جدي موسى أبوجبارة، أو العم موسى، أو عمّنا أبو بشار، أو أبو بشار، أو الخال موسى، أو سيدو موسى. تعددت الأسماء، ومهما ناديت، فهو ذلك الشخص العظيم، صاحب الوقار والهيبة والأدب والدماثة والرقي .
لا أعلم ما أكتب، هل هي مذكرات وذكريات؟ أم ترجمة وتاريخ؟ أم تفريغ لما أشعر به من ذوبان قلبي وبكاء روحي؟ لكن أكتب الآن ليتعلم عنه بناتي وجيل العائلة، وكل من خالطه أو سمع عنه، ليعرف ترجمة وتاريخ هذا الرجل.


البداية وأمانة السر

وُلدت وأنا أكبر أحفاده، وكان عمره عند ولادتي لا يتجاوز الـ48 عامًا، وأكرمت بصداقته وملازمته ومجاورته منذ البداية، حيث كان بيتنا فوق بيته الطيب.
لازمته منذ طفولتي في أغلب المناسبات والجاهات والعزايم والعمل وسوق الخضار والبنقلة والمسلخ والسوبرماركت وصلاة الفجر في المسجد، وفي السيارة، وفي السفر، وفي الحضر.
ولأني كنت كبير أحفاده وملازمه وظله، كنت جسره وبوابته لكل ما يتعلق بجيلي وملحقاته، وكنت حافظ سره في أشياء أعلم أن حتى والدي وأبناءه لا يبلغهم بها. وكنت موصلًا له لكثير من الأمانات والأسرار، وعينت نفسي منذ الصغر أن أكون أمين سره ومدير مكتبه للشؤون الخاصة.


مواقف ودروس

عن الكرم

عن الكرم: افعل ولا تتحدث. ما وجدت ولا قابلت شخصًا معطاءً في حياتي مثله، بدون انحياز.

يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، وإن أصيب بها، تأكد يا صديقي أنك لن تعلم.

لن تجد عدد أشخاص استضافهم مثله، ولن تجد عدد من الديوانيات أقام، ولن تجد شخصًا أعطى أكثر ممن طلب الطالب.

وأجزم: لو جمعت عدد الديون والهبات التي أعطاها للناس، ليكون الرقم فوق ما تتخيل من خانات الأرقام، يقارب ربما رقم هاتفك.

وكان يتفقد الكثير في كل بقاع العالم، ويحوّل مبالغ لآخر أيامه. كنت أتعجب: كيف هذا الكرم نَفذ وعدّى الأنظمة والقوانين المالية والبنكية؟

منزله فندق لعقود. لا أذكر يومًا زرت منزله إلا بوجود ضيف، سواء عابر أو مقيم في منزله منذ فترة، حتى يصبح الضيف فردًا من أفراد العائلة المقرّبة.

كان منزله المأوى لكل من طرق الباب، وبداية ذكرياتي من أيام حرب الخليج وكل الازمات بعدها ، تحوّل منزله لقبلة ومأوى لكل من يعرفه.

عن الولائم الإبداعية لا تسأل. قد حضرت كثيرًا منها بنفسي، ولكن عندما كبرت، ويعلم من يقابلني أني حفيد أبوبشار، يأتي بي بقصص قديمة ومواقف غريبة، حرفيًا قبل الميلاد – وأعني ميلادي – بأنه حضر منزلنا يومًا ما وأكل وقضى يومًا وخرج ومعه أكل الأسبوع، من طلاب جامعات، من مراكز صيفية، من تحافيظ، من مدارس، من كل شيء ومن كل عائلة ومن كل بيت .

عن الأخلاق

عن الأدب: تحلَّ ولا تتحدث. لم يذكر شخصًا بسوء، ولا أذكر أنه اغتاب أحدًا، ولم يكذب، وكان صادق الوعد، وصاحب كلمة لا تتبدل ولا تتغير.

طيب القلب – يبدو أني ذكرت كلمة “كان” لأول مرة في المقال وفي حياتي، وأحزن جدًا لذلك. كان وسيكون، وتبقى ذكراه – طيب الروح، طيب النفس، متواضع، وناصح، وأمين.

حافظ سر الناس، وساترهم، لا يحمل حقدًا ولا سوءًا ولا حسدًا.

في كل كلمة هنا أستطيع أن اذكر واكتب لك قصصًا وصفحات عنه.

عن الزوج

أذكر، منذ كنت طفلا ، أن غداء يوم الجمعة هو طبخ وتحضير جدي.

وكنت أفرح جدًا وأتعجب عندما أراه وكأنه سوبرمان الغريب: كيف لرجل أن يفعل أفعال كنت أحسبها للنساء فقط؟ من تقطيع الخضار واللحمة أو الطبخ أو الجلي؟

وبعدما تغيرت الأساليب وتطورت الحياة، تعهّد بإكمال تكفله الكامل يوم الجمعة، ليكون الغداء خارج المنزل، وأنه هو يوم الراحة والإجازة لزوجته وبقي ديدن العائلة .

قابلت أزواجًا كثيرة بأعمار ومدد زواج طويلة، ولم أجد، وأتحداك أيها القارئ العزيز أن تعد بأصابعك الخمسة بيوتًا كان السلام والوفاق والسكن والمودة فيها كما في بيت جدي. لو تعلم بيته، لاخترته بين هؤلاء الخمسة.

يُشاور جدتي في كل شيء، ينام ويتغدى ويستيقظ ويذهب ويستقبل ويتحدث معها، لا يسبقها بشيء، يحترمها ويذكرها بكل خير في حلّها وترحالها، وحتى بعد أكثر من 60 عامًا من الزواج، اكتشفنا صدفة صندوق رسائلهم أيام الخطبة، وأبى أن نقرأها بصوت عالٍ خجلًا وأدبًا. ولا يستحي إلا عاشق شهم يا رجل .

عن الهواية

رجل سليم النفسية، ويعيش عصره مهما تبدّلت التقنية والتقانة. هو يجاريها ومعها. عاشق التصوير وفنونه، وأجد نفسي كثيرًا منه في ذلك.

ما اجتمع اثنان في كل حياته إلا طلب صورة جماعية.عنده من عدد الكاميرات، منذ الأبيض والأسود، وحتى أحدث الكاميرات.

تمخض من هذه الهواية أرشيف معتبر، تستطيع أن تقيم منه معرضًا ومتحفًا مصغرًا، لتعرف كيف انقضت الثمانون عامًا الماضية على ظهر هذه المعمورة.

علمني كيف يعمل الفِلم، والتحميض، والنيجاتيف، وكل أسبوع كنا نسهر بظرف لنشاهد الـ36 صورة للفيلم الأخير.

ودخل في عالم تصوير الفيديو، وأنتج بذلك أيضًا أرشيفًا ضخمًا من الكاسيتات البلاستيكة ومنتهيا في مساحة ضخمة في كلاود آيفونه.

تعلّم الكمبيوتر منذ اختراعه -حرفيا- ، وإني ممتن له لكل ما أعرف وأتقن من التقنية اليوم. تعلّمت بالنهاية على حاسوبه.

عشق السفر، والخيل، والتجارب، والشوي، والطبخ، والصيد، والبحر، والقراءة، والكتابة، والرياضيات.

فلا تلومني بحب هذا الرجل المغامر، وتأكد: إن كنت تعرفني، فأنا أحمل جيناته مع هواياته.

عن الفكاهة والمتعة

في أحلك الأوقات، نُكتته ودعابته على لسانه. مؤنس، خفيف الروح، وكيف لا، وهو من سماني أصلًا “أنس”.

دائمًا يرى الشيء الجميل، ويعلّق التعليق الجميل. ما جلس معه أحد سهرة أو عمل أو اتصال، إلا وابتسم أو ضحك، أو حتى قهقه.

في أيامه الماضية، وفي أشد ما اشتد به المرض، سألته وهو على سرير المستشفى:“تحب يا جدي أن أعمل مساج لقدميك؟” قال لي: “اللي بيعمل خير ما بيشاور”، وضحك.

وما ذهب في اجتماع عائلة إلا ومعه حقيبة مليئة بالهدايا والمسابقات وكتب الألغاز، وحتى دفتره الخاص المليء بكل ما كان يقرؤه من الفكاهات والنوادر ، يجمعها ليقرأها أمام جمهوره ومريديه.

جلساته متعة، وإن قام ورحل، انفض المجلس، ولم يبقَ أحد بعده في مجلس ذهبت روحه.

عن الحكمة

مستشار العائلة، ومستشار في العمل، ومستشار في القرار. يذهب إليه كل من احتار أو ضاع، ليجد عنده الحكمة.

رصين، منضبط في قراره وتصرفه، لا يغضب، ولا يضيع هيبته في ضحك تافه. حكم بين أزواج كثر، وحلّ مشاكل معلقة من سنين مع أطرافها.أصلح بين متخاصمين، وألّف الله على يديه قلوبًا كثر.


ماذا بعد


لا أعلم، وسأبقى له الولد الصالح الذي يدعو له.
حفظ الله جدي، ورحمه، وطهره، وتقبله.


أنس


Designed in

By

© Copyright 2025